صناعة الفخار المغربي حين يتحول التراب الى ذاكرة

في قرى الجنوب وعلى ضفاف واحات المغرب، هناك حكاية لم تتوقف يوما عن التشكل. ليست بالحبر، بل بالطين. وليس بالكلمات، بل بأصابع تغوص في الأرض ثم ترفعها الى السماء على هيئة فخار. الفخار المغربي ليس مجرد اوان للطبخ او التخزين، بل هو فن حي، لغة ترابية تنطق بما لم تقله الكتب.
كل قطعة فخار تبدأ من حفنة طين بني، يتم جمعه من ضفاف الأنهار او المناطق الطينية الخاصة. يُترك ليجف، ثم يُدقّ ويُنخل ويُعجن بالماء حتى يصبح طريا مرنا كالعجين. ثم تبدأ الرقصة العتيقة، حيث يجلس الحرفي امام دولاب الفخار، يضع الطين في المنتصف، وتبدأ يداه في التحليق. القطعة تدور، والأصابع تنحت، والصمت يتكلم. يُترك الفخار ليجف، ثم يدخل الفرن في درجات حرارة عالية ليولد من جديد، هذه المرة ليس كطين، بل كجسد فني صلب.
بعد الحرق، تبدأ مرحلة الزخرفة، وهنا تتدخل الألوان والرموز والروح. الأزرق الفاسي، الأخضر الأطلسي، الأحمر الطوبي، كل لون له قصة، وكل رمز له معنى. الخطوط، المثلثات، الزهور، وحتى المساحات الفارغة، كلها ليست عشوائية، بل انعكاسات للثقافة الأمازيغية والعربية والأندلسية التي التقت كلها في قطعة واحدة.
فاس تعرف بدقة النقش، صفرو تعرف بخفة الطين، آسفي مشهورة بأفرانها الحارة، وزرهون تحكي قصصا فوق الجرار. لكل منطقة أسلوبها الخاص، وكل قطعة فخار تحمل بصمة المكان والإنسان.
نعم، الفخار ما زال حيّا، لكنه يهمس بدل أن يصرخ. في زمن البلاستيك والزجاج، بقي الفخار المغربي صامدا كدليل على البساطة والعراقة. لا تزال النساء في بعض القرى يشعلن الأفران بالطين والرماد، ولا يزال الرجال يدوّرون الدولاب كما فعل أجدادهم.
حتى حين يتشقق، يظل الفخار المغربي جميلا، لأنه يحمل حرارة الفرن، رائحة الأرض، وعبق أزمنة لا تُنسى. هو ليس للزينة فقط، بل للمسة، للذاكرة، للهوية. الفخار المغربي هو التراب حين يحلم، هو الأرض حين تُبدع، هو المغرب حين يتكلم بلغة قديمة لا تحتاج ترجمة.